من موضوعاتنا:

قراءة تربوية وتاريخية لنتيجة جمال عبد الناصر في الثانوية

مع اقتراب امتحانات الثانوية العامة، وبعدها نتيجة الثانوية العامة، يختلط الجد بالهزل، واللعب بالتعب؛ فيبدأ البعض في تناول ونشر نتيجة جمال عبد الناصر في الثانوية العامة، والاستهزاء والسخرية منها ومنه لا سيما من الفشلة فرادى وجماعات.
بل لا يحدث هذا في موسمٍ الثانوية العامة بل طول السنوات العجاف السابقة يتم نشر ما يُقال أنه شهادة نتيجة الرئيس جمال عبد الناصر في الثانوية العامة ( التوجيهية وقتها)، والتي حصل عليها جمال عبد الناصر في عام 1936 م بترتيب 899 على مستوى مدارس المملكة المصرية. اقرأ حقائق حول جمال عبد الناصر والإسلام.
شهادة نتيجة جمال عبد الناصر في الثانوية العامة
شهادة نتيجة جمال عبد الناصر في الثانوية العامة
وكما قلنا تؤخذ شهادة جمال عبد الناصر هذه كمثال للضحك والسخرية والاستهزاء؛ ويتم تداولها بكثافة في مواقع التواصل الاجتماعي، ويتم تركيب صورة الشهادة في الصور الساخرة ( الكوميكس) وغيرها، ويستغل خبثاء القوم الأمر فيتهمون جمال عبد الناصر بأنه كان فاشلًا ليس في الثانوية العامة وحسب بل في حكم مصر وإدارتها، ويقولون أن عبد الناصر حصل على هذه الدرجات؛ لأنه كان دون مستوى الذكاء المطلوب لطلاب الثانوية العامة؛ وبالتالي لم يكن يملك ملكات وقدرات حكم مصر وهو من فشل في التعليم.
وبدأ الكثير لا سيما من الشباب في طرح أسئلة مثل:
ما حقيقة وما صحة شهادة نتيجة جمال عبد الناصر الثانوية المنشورة في مواقع التواصل الاجتماعي؟
 كم درجة ونسبة نجاح جمال عبد الناصر في الثانوية العامة؟
كم درجات ونسب نجاح رؤساء مصر في الثانوية العامة ومنهم جمال عبد الناصر؟
هل كان جمال عبد الناصر فاشلًا في الثانوية العامة؟
كم ترتيب جمال عبد الناصر في نتيجة الشهادة الثانوية سنة 1936؟
هل كان جمال عبد الناصر ذكيًّا؟ كم مقياس ذكاء جمال عبد الناصر؟
كيف أصبح جمال عبد الناصر رئيسًا لمصر وهو فاشل في الثانوية العامة؟
وانتشرت هذه الأسئلة المضحكة والسطحية لا سيما بين الشباب كمعيار للحكم على مسيرة الرجل.
وإذا افترضنا صحة نتيجة جمال عبد الناصر الثانوية المتداولة بكثافة للسخرية والاستهزاء؛ فإننا لن نفترض بل نؤكد حقائق لا شك فيها في مقالنا هذا.

التعليم والذكاء- نتيجة جمال عبد الناصر في الثانوية نموذجًا

هناك مجموعة من الحقائق وجب التأكيد لها وعليها عند من يجهلونها ، ويتهمون عبد الناصر بالفشل في الثانوية العامة وحكم مصر وإدارتها والحياة عمومًا، وهه الحقائق هي:
أولًا- التعليم ليس مقياسًا لقدرات البشر أو ذكائهم الطبيعي، فمحمد علي- والذي يفتخر به الكثيرون- كان أميًّا لم يذهب للمدراس والجامعات، وعباس محمود العقاد عملاق الأدب العربي وصاحب العبقريات لم يكمل الابتدائية حتى ولم يحضر ماجستير أو دكتوراة، وعلى عدم ارتباط المستوى التعليمي بالذكاء والقدرات الذهنية أمثلة لا عد لها ولا حصر.
ثانيًا- إن نتائج الطلاب لا تعبر عن مستواهم العقلي وذكاءهم الذهني؛ إذ أن الامتحانات تقيس المستويات الدنيا للتفكير وليس كل مستويات التفكير.

والمستويات الدنيا  للتفكير والمعرفة التي تقيسها الامتحانات هن مستويات التذكر والحفظ والفهم، وهن أقل مستويات التفكير شأنًا حسب تقسيم بلوم والمكون من ٦ مستويات تصاعديًا هي: التذكر والحفظ والفهم والتحليل والتركيب والتقويم، والثلاث الأخيرة تسمى المستويات العليا للتفكير، وهي المرتبطة بالتفكير الإبداعي وحل المشكلات والتفكير التأملي والتفكير الناقد...، ولا تقيسها الامتحانات المصرية- للأسف- عبر العصور.
وكم من طلاب حاصلون على الدرجات النهائية أو قبل النهائية في الثانوية العامة لا يجيدون القراءة والكتابة بالطريقة الصحيحة، والجزء الأكبر منهم ليس لديهم اهتمامات أو تفكير أو ميول خارج مجال تخصصهم، ولم يقرأوا يومًا مقالًا أو كتابًا خارج حدود دراستهم، ومستوى ذكائهم وتفكيرهم خارج نطاق تخصصهم محدودٌ للغاية.
ثالثًا- التعليم المصري عبر العصور لا يطبق نظرية الذكاءات المتعددة، وهذه النظرية هي الأصح في نظري، وتقول هذه النظرية أن: كل إنسان لديه ذكاء وتفوق في مجال أو أكثر من مجالات الحياة، وليس كل البشر متساوون في التفوق في مجال معين بل يسود الاختلاف بينهم؛ ليكمل البشر بعضهم البعض في الحياة ومتطلباتها.
فمثلًا نجد من هو متفوق في المجال الرياضي، وغيره متفوق في المجال الرياضياتي، ومن هو متفوق في مجال الأدب، وغيره متفوق في الكيمياء أو الفيزياء، ومن هو متفوق في التمثيل وليس بمتفوق في الأحياء أو الجيولوجيا وهكذا. فمثلًا زميل محمد صلاح الذي دخل كلية الطب ليس أكثر ذكاءً في العموم من محمد صلاح بل متفوق عليه في مجال واحد هو المجال العلمي بل في فروع جزئية منه، ومحمد صلاح أكثر ذكاءً منه في المجال الرياضي بل في أحد مجالاته وهو كرة القدم.
وزميل نجيب محفوظ الذي دخل كلية الهندسة ليس أكثر ذكاءً من نجيب بل متفوق عليه في مجال واحد ونجيب أكثر منه ذكاءً في المجال الأدبي، وزميل الفنان محمود مختار الذي دخل كلية العلوم ليس أكثر ذكاءً من محمود مختار في العموم بل أكثر ذكاءً منه في مجال واحد ومحمود مختار أكثر ذكاءً منه في مجال النحت وهكذا.

هل كان جمال عبد الناصر فاشلًا في الثانوية العامة؟ 

يجهل من ينشرون نتيجة جمال عبد الناصر في الثانوية العامة ( التوجيهية)، ويسخرون منها أنها كانت في عام 1936 م أي منذ ما ما يقترب من تسعين سنةً؛ وأن نظم التعليم والتقويم والتنسيق قد اختلفت وتبدلت واستبدلت وتغيرت؛ لأسباب كثيرة.
ويمكن الرد على من يسخرون من شهادة جمال بخصوص مقاييس التفوق والنجاح والرسوب بقولنا:
أولًا- مقاييس النجاح والتفوق وضوابط النجاح والرسوب تختلف من عصرٍ لآخر، فمثلًا الطالب الحاصل على ٦٥% في الثانوية العامة كان يستطيع دخول كلية الطب حتى السبعينات في القرن الماضي، والحاصل على نفس الدرجة في القسم الأدبي يستطيع دخول كليات الألسن والاقتصاد وغيرها، ثم تغيرت المقاييس فصار من يدخل كلية الطب هو الطالب الحاصل على ٩٦% وأكثر، وها هي قد تبدلت في آخر سنتين.
ثانيًا- عدد الطلاب الحاصلين على الثانوية العامة في القطر المصري عام ١٩٣٦ كان ٤٠٠٠ طالب وكان ترتيب الرئيس جمال عبد الناصر من بينهم هو ٨٩٩- كما تقول الشهادة المنتشرة- أي أنه من الربع الأول الناجح والمتفوق.
ثالثًا- استطاع جمال عبد الناصر دخول كلية الحقوق بعد حصوله على هذه النتيجة، وكانت وقتها من كليات القمة وقتها وتسمى كلية الوزراء؛ نظرًا لأن أغلب الوزراء ورؤسائهم كانوا منها؛ فهل كان جمال عبد الناصر فاشلًا في الثانوية العامة؟!!!
فقد تقدم جمال عبد الناصر بعد تخرجه من الثانوية العامة للكلية الحربية؛ لأنه لا يمتلك واسطة فقد تم رفضه في اختبار الهيئة، أتجه بعدها ناصر والتحق بكلية الحقوق بجامعة فؤاد الأول( القاهرة حاليًا)، ثم عاد والتحق بالكلية الحربية في الدفعة الاستثنائية لعام ١٩٣٦، بعد توقيع اتفاقية ١٩٣٦ والسماح بدخول عدد أكبر من الطلاب للكلية الحربية؛ وبالتالي الأخذ من طبقات اجتماعية متوسطة وفقيرة، هل تعرف كيف دخل جمال عبد الناصر والضباط الأحرار الكلية الحربية؟
وبعدما عرفنا أن النتائج الدراسية ليست مقياسًا للذكاء أو القدرات الذهنية تعالوا بنا نتعرف على ملامح القدرات الذهنية للرئيس جمال عبد الناصر.
البطاقة الجامعية لجمال عبد الناصر في كلية الحقوق بعد تخرجه من الثانوية العامة؟
البطاقة الجامعية لجمال عبد الناصر في كلية الحقوق؛ هل كان فاشلًا في الثانوية العامة؟

القدرات العقلية لـ جمال عبد الناصر قبل وبعد الشهادة الثانوية

كان جمال عبد الناصر شديد الذكاء، عميق الفكر، مالك للقدرات الذهنية العليا، متصف بالذكاء العاطفي الجلي، متأمل، ناقدٌ، مبدعٌ، ومن ملامح ذلك:
أولًا- كان ناصر نهمًا في القراءة عاشقًا لها، وهي هوايته الأولى ورفيقته الدائمة منذ الصغر؛ لدرجة أنه استعار من مكتبة الكلية الحربية في عامي ١٩٣٧ و١٩٣٨ أربعين كتابًا، منها ما يزيد عن ثلاثين كتابًا باللغة الإنجليزية التي كان يجيدها تمامًا، وكانت الكتب متنوعة في الجغرافيا والتاريخ والتخطيط وغيرها من الشؤون، ولا يمكن لطفل ثم شاب محدود القدرات الذهنية أن يكون قارئًا نهمًا ومطلعًا شغوفًا، فالقراء هم العباقرة.
 ثانيًا- شارك جمال عبد الناصر وهو طالب في الثانوة العامة بعمر السابعة عشر في مظاهرات الطلبة المشهورة سنة ١٩٣٥؛ وأصيب بشجٍ في رأسه؛ بسبب اعتراض قوات الشرطة الخاضعة للاحتلال للمتظاهرين وقتها، إذًا هذا الشاب الصغير لديه ميول سياسية وبواعث وطنية واضحة جلية منذ الصغر، ولا يهتم بالسياسة وشؤونها والأمور الوطنية ومآلاتها سوى الأذكياء المتفوقين، ولا يمكن للبلداء محدودي القدرات والفكر المشاركة في هكذا أعمال لا سيما وهم في صغر السن.
إصابة جمال عبد الناصر وهو في التوجيهية؟ فهل يتهم عبد الناصر بالفشل
إصابة جمال عبد الناصر وهو في الثانوية العامة؟ هل كان جمال فاشلًا؟
ثالثًا- حاول جمال عبد الناصر الالتحاق بالكلية الحربية مدفوعًا بدوافع وطنية كبيرة وطموحات عظيمة، وحبًا للمشاركة في خدمة الوطن وحمايته، وهذه الصفات لا يمكن أن تتوفر إلا في أصحاب القدرات الذهنية المتقدة عقليًّا ووجدانيًّا.
رابعًا- بعد أن صار جمال عبد الناصر ضابطًا بالقوات المسلحة- ولم يكن عمره يبلغ الثلاثين عامًا- بدأ يبحث عن سبل إنقاذ الوطن مما هو فيه، جال على جميع التنظيمات السياسية من أقصى اليمين إلى أقصى اليسار: الإخوان المسلمين مرورًا بالوفد والحزب الوطني ومصر الفتاة وحدتو في أقصى اليسار، ولا يمكن لشاب ضعيف القدرات محدود القوى أن يختبر كل هذه التنظيمات، ويثبت فشل أفكارها وخططها في الخلاص بالوطن من مصائبه ومشكلاته. 
خامسًا- أصبح جمال عبد الناصر وهو في عمر الخامسة والعشرين في ٧ فبراير ١٩٤٣ مدرسًا للاستراتيجيات بكلية أركان الحرب ومعلمًا لها، ولا يمكن لضابط محدود الإمكانيات ضعيف الفكر أن يصبح معلمًا لمادة قائمة على أساس الإدراك الشامل والفهم الواسع والاطلاع الكثيف والإبداع العميق.
سادسًا- أسس وكون جمال عبد الناصر وهو في الثلاثين تقريبًا تنظيمًا من الصفر، وضم له مئات الضباط من مجموع ٢٨٠٠ ضابطًا بالجيش، وقادهم نحو إحداث تغيير كبير في البلاد وشؤون العباد، ولا يمكن لضابط شاب صغير أن يحدث هذا لولا قدراته الكبيرة في الفكر وإمكانياته اللامحدودة في الإدارة.
سابعًا- استطاع جمال عبد الناصر هزيمة ساسة ما قبل الثورة جميعهم بأحزابهم وجماعتهم وإمكانياتهم اللامحدودة، وأحدث تغييرًا جذريًا في المجتمع المصري، واستطاع انتزاع السلطة منهم جميعًا، ألا يدل هذا على عبقرية ناصر الفذة اللامحدودة.
لنأخذ الإخوان المسلمين كمثالٍ لذلك، فمن الحلف معهم إلى الهدنة إلى القضاء عليهم، وهو الشاب الثلاثيني وهم الجماعة المليونية المتجذرة والمنتشرة والمتمكنة، وضم إليه ٦٠% من هيئتها التأسيسية؛ بعدما اختلفوا وتضاربوا على من معه ومن ضده، ومسك بخيوط التنظيم الخاص بعد أن ضم إليه قائده عبد الرحمن السندي، التنظيم الخاص- الذي كان يرعب كل من يعادي الإخوان وأفكارهم- برجاله المدربين وما لديه من الأسلحة والخطط والخبرات المتراكمة.

الإخوان المسلمون الفاشلون يتهمون عبد الناصر بالفشل

هناك نقطة أخرى مثيرة للضحك وللسخرية؛ وهي أن من يتهمون جمال عبد الناصر بالفشل في الثانوية العامة والسياسة وحكم مصر هم رموز للفشل فرداى وجماعات؛ فشل بتفوق.
منهم الفاشل في الدراسة والعمل بتقدير ممتاز في الفشل؛ فعمل على إسقاط فشله على أعظم من حكم مصر بل أعظم مصري على الإطلاق، ومنهم الفشلة في السياسة- الذين فشلوا في الحفاظ على انتفاضتهم وتحويلها إلى ثورة- بينما نجح الشاب ناصر في ثورته وقيادتها؛ لذلك يسقطون عليه فشلهم.
أما أكثر الفشلة وفي نفس الوقت أكثر من يرمي ناصر بالفشل فهي جماعة الإخوان المسلمين؛ هذه الجماعة المهزومة الفاشلة طوال تاريخها، هزمها من حكموا مصر من فاروق إلى السيسي، وبعدما وصلوا للحكم بعد الجري وراءه لعشرات السنوات فشلوا في الحفاظ عليه لأكثر من سنة، وقد سبق أن الشاب الثلاثيني ناصر- الذي يتهمونه بالفشل- هزمهم شر هزيمة وجعل شيابهم يتشاجرون على من معه ومن ضده، أفلا يستحون أن شابًا صغيرًا هزم جماعتهم الكبيرة المنتشرة الممتدة الممولة ومع ذلك يتهمونه بالفشل. 

الإخوان المسلمون الفاشلون يتهمون جمال عبد الناصر بالفشل في الثانوية العامة وحياته عمومًا
الإخوان المسلمون الفاشلون يتهمون جمال عبد الناصر بالفشل في الثانوية العامة وحياته عمومًا
ونتوقف هنا عند بداية الثورة حيث ناصر الشاب الثلاثيني، ولن نناقش صراع ناصر مع أوضاع مصر آنذاك، ولا صراعه مع القوى الدولية بكل قوتها وقواها، وكيف أدار ناصر تلك الصراعات بعبقرية فذة، وثبات منقطع النظير، وندية كأنها جملة الجملة الاعتراضية الوحيدة في تاريخ مصر؛ فهل كان ناصر فاشلًا أيها الفشلة؟!!!
لم يكن جمال عبد الناصر فاشلَا ولم يفشل سواء في نتيجة الثانوية العامة أو ما بعدها ليوم وفاته رحمه الله.
مالكم ألا تستحون؟!!  رجاءً: استحوا.
برأيك أنت وبعدما قرأت مقالنا هذا: هل كان جمال عبد الناصر فاشلًا عندما حصل على شهادة الثانوية العامة في سنة 1936 يمكنك الإجابة من خلال التعليقات التي لا نشترط فيها تسجيل الدخول.
جمال الغريدي
جمال الغرِّيدي
جمال الغرِّيدي
تعليقات